الاثنين، 20 ديسمبر 2010

"أكرمكم الله والسامعين"


 

عجائب الدنيا كثيرة وعجائب العقول أكثر, كنت أستمع إلى برنامج "مستشارك التعليمي" هذا اليوم الاثنين الذي يبث من إذاعة الرياض ويبحث هذا البرنامج مع الضيف والذي يكون عادة مسئول رفيع في وزارة التربية والتعليم مختلف القضايا التربوية والتعليمية وكان الحديث عن التقويم المستمر في المرحلة الابتدائية, أعترف أنني لم أكن مصغياً بشكل جيد فموضوع التقويم المستر لم يطبق في المرحلة الثانوية ولكني تابعت الاستماع, اتصل معلم صفوف أولية وتحدث عن صعوبة المهارات المطلوب من الطلاب إتقانها يستغرب هذا المعلم فيقول" يا أخي تصور أنه مطلوب من الطلاب في هذا العمر أن يرسموا أكرمكم الله والسامعين ....." وجدت يدي بشكل لا إرادي وسريع ترفع صوت المذياع لأسمع هذه الفضيحة التي يمهر الطلاب رسمها ولسان حالي يقول: وافضيحتاه كل يوم يمر يكشف عن مهزلة في هذه المناهج, ولا مناص ولا خلاص من هؤلاء المعمرين الذين جثموا على مناهجنا طيلة الثلاثين عاماً الماضية وقاوموا أعتى رياح التطوير وموجات التقاعد؛ إلا بنفيهم إلى جزر الواق واق ثم نبدأ بمرحلة تطهيرية جديدة نستخدم فيها أقوى التعويذات ومزيلات الأفكار المترسبة والسوداوية التي تتربص بفلذات أكبادنا بين سطور المقررات المدرسية, في هذه الأثناء أكمل المعلم جملته: .... القطط والطيور" !! وبقدر الفرح الذي تخلق داخلي كون المناهج هنا ليست المسئولة؛ تخلقت خيبة أمل فبعد أن خصصت الدولة تسعة مليارات ريال وتم الانتهاء من إصلاح العربة وجدنا الحصان يحتاج إصلاحاً أيضاً.

المعلم لم يكن من بلدة نائية فهو يدرس في أحدى المحافظات المتاخمة للرياض ومن صوته لم يكن كبيراً في السن فيعذر على هذه المقولة التي كنا نسمعها من " شيباننا" عندما يذكرون المرأة لجهلهم طبعاً, تخيلوا معي عندما يقول المعلم لطلاب ثاني أو ثالث ابتدائي: "ارسموا أكرمكم الله هذه القطة"! وكيف يكون وقع هذه الكلمة المقززة على أولئك الطلاب, والمصيبة أعظم لو برر لهم تبريراً أسوأ, ومن المؤكد أن أكثرهم يقوم على تربية قطة جميلة أو طائر ملون في منزله وعندما يتعلم في المدرسة بأن هذا الكائن المحبب إلى قلبه قذر فإن سيتأذى عاطفياً ونفسياً, ومهما حاول والداه إقناعه إلا أن المقدم عنده قول معلمه لأنه من المتعارف عليه أن الطفل في هذا السن والمرحلة يأخذ كل ما يقوله معلمه بالقبول ويؤمن به بشكل لا يقبل التشكيك وبقناعة لا تتزحزح, والدراسات النفسية أثبتت أن معظم تصرفات الرجل الكبير تنبثق عن القناعات التي غرست فيه صغيراً سواءً شعر بها أم لم يشعر, وأجزم أن النظر إلى الحيوانات بهذه النظرة المستقذرة والإزدرائية أوجدت لدينا جيل يحمل في داخله كره وعدائية للحيوانات فصرنا نقيم محميات لحياتنا البرية من العدو المتربص بها وهو ابن البلد!!! ومع ذلك تم اختراق هذا الطوق الأمني وارتكبت مجزرة الربع الخالي وقبلها تم قتل غزال بوحشية على يد مجموعة من الشباب في ضواحي الرياض وجدوه صدفه يتنزه ساعة من نهار خارج سياج مزرعته, ناهيك عن حملات الإبادة التي تنظم بين حين وآخر تحت مسمى صيد أو "مقناص" أدت إلى انقراض أنواع نادرة من الحيوانات كانت في السابق قطعان تزين جنبات الوديان وسفوح الجبال في الجزيرة العربية.

ألا يعلم هذا المعلم أن امرأة دخلت النار بسبب هرة ؟, ألا يعلم أيضاً أن هذه الحيوانات وصلت إلى الأرض قبل أن يصلها الإنسان بملايين السنين؟, ألا يعلم أن جمال الحياة يكمن في التفاعل الإيجابي بين الإنسان والحيوان والنبات؟ وأن الطيور ذكرت في القرآن الكريم كأحلى مأكولات الجنة لحوماً؟, ألا يتناول هذا المعلم لحم طير بعد عودته من حفلة استقذارها في المدرسة؟.

كنت أتمنى من المستشار التعليمي لو سأل المعلم لماذا قال " أكرمكم الله" بعد ذكره القطط والطيور أو على الأقل علق على هذه الكلمة بعد انتهاء المداخلة, ولكن هذا لم يحصل منه ولا من المذيع وهما بالتأكيد لا يوافقانه على ذلك, والسكوت عن هكذا أمر ليس في محله لأن المعلم في الأساس ضحية لتربية سابقه ترسخت في عقله الباطن وتؤثر على كثير من تصرفاته وأفعاله ربما دون أن يعي ذلك وتوجيه بسيط ربما يغيره كثيراً إذا كان قابلا للتغيير وهذا هو المأمول وإلا فعلى التربية والتعليم السلام.

السبت، 21 أغسطس 2010

بين أبي بكر الرازي والقصيبي غازي

لم يكن مثل أكثر العباقرة الذين ولدوا من رحم المأساة وبدؤوا خطواتهم الأولى فقراء مدقعين, بل كان ينتسب لأسرة عريقة وثرية, وكان منذ طفولته يتميز بحدة الذكاء والعبقرية الفذة والموهبة الفريدة, وكان أيضاً محباً للعلم والعلماء إلا أن بلدته الصغيرة لم تشبع نهمه لطلب العلم فانتقل إلى عاصمة العلم في وقته آنذاك ينهل من بطون الكتب صنوف المعرفة فأبدع في أكثر من مجال, وبعد إتمام دراسته عاد إلى بلده, وما هي إلا بضع سنوات حتى أصبح يشار إليه بالبنان فهو إضافة إلى ما يحمل من العلم والمعرفة؛ يتصف بالتواضع الجم ولين الجانب وطيب الطوية وكرم الأخلاق وحسن المعشر, وبإخلاصه لقيمه ومبادئه, وفوق ذلك كله فإن الله قد حباه بكاريزما طاغية, فقربه الحاكم/الملك لهذه الصفات التي فيه ولإخلاصه لدينه وبلده, وأول منصب تولاه في الدولة كان أعلى منصب في الصحة فنجح نجاحاً منقطع النظير وبزغ اسمه, وتجاوزت شهرته حد الآفاق فأصبح "كأنه علم في رأسه نار", وبالرغم من منصبه الرفيع هذا وقدرته على استغلاله لمصالحه الشخصية وحيازة الثروة إن أراد؛ إلا أنه مال للتقشف ولم يظهر منه أي شره لجمع المال ولا سرف فيه, بل ما عرف عنه كان عكس ذلك فحافظ على المال العام كمحافظته على عينيه, وكل همه أن يعيش الإنسان بصحة ورفاه, واجتهد في تحقيق الأهداف التي رسمها له الحاكم/ الملك بإتقان وتفان وإخلاص, واستمر على هذا النحو في جميع المناصب التي تقلدها, وألف العديد من الكتب والكثير من الرسائل والمقالات, إنه بلا شك رجل استثنائي مختلف عن الآخرين, فريد عصره ونادر زمانه, ولكن هذا النجاح الذي حققه كان له ثمن؛ فقد حسده الذين امتلأت قلوبهم من المرض ووجد الشيطان مجاري دمائهم طرقاً سالكة ينفذ منها إلى أي جزء شاء من أجسادهم, فطفقوا جاهدين ليحطوا من قيمة هذا الرجل العلمية, فرموه بأقبح التهم وطعنوا بقسوة في أخلاقه وذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك حينما شككوا في دينه واتهموه بالكفر والإلحاد والزندقة.

يا ترى هل ما سبق يخص الشاعر والأديب والروائي والمفكر والسفير والوزير الدكتور غازي القصيبي أم يخص الفيلسوف والطبيب والكيميائي والفلكي محمد الرازي؟ الحقيقة أنه يخص كليهما؛ فغازي ومحمد اتفقا في كل ما سبق إلا الزمان والمكان, فبينهما أكثر من عشرة قرون. أنهما عبقريان من عباقرة التاريخ, كسرا التابو وحركا المياه الراكدة وفجرا العديد من القضايا بشجاعة لا تجارى, ليس هذا فحسب بل قدما الجديد من المعرفة والعلم وخدما الفكر وقبل ذلك الإنسان, وقارعا المتطرفين الذين يهدمون ولا يبنون ويفسدون ولا يصلحون ويعسرون ولا ييسرون, فشتان بين من امتهن التنوير وبين من امتهن التكفير. إن أبا بكر وأبا سهيل وإن كان جسديهما الآن تحت الثرى, إلا أنهما باقيان بكتبهما وأعمالها وسيظلان كذلك إلى أن تقوم الساعة " فالذكر للإنسان عمر ثاني".

تبادل الناس رسائل التعزية صبيحة يوم الأحد وورد إلي نصيب لا بأس به من أصدقائي وزملائي وهم من أطياف شتى, ومن بين رسائل التعزية أتت رسالة متطرفة لا تعزي ولكنها تقول بالحرف الواحد:" توفي اليوم الدكتور غازي القصيبي فأفضى إلى ما قدم, ما أقصر الحياة لو تأملتها, وهل حصل على كل ما يريد؟ والسؤال الذي يطرح نفسه كم عدد الذين يترحمون عليه ؟" صاحب الرسالة أعرفه تمام المعرفة فقد جمع بين الحمق والتشدد, لدرجة أن أبنائه من شدة ما ضيق عليهم يتمنون فراقه, فتجاهلت الرد عليه - ليس عجزاً ولا اتباعا لنصيحة الشافعي رحمه الله - ولما رأى مني التجاهل أرسلها مرة أخرى وأخرى وكأنه يريد إجابة مني بلحح, فجاءه الجواب كما يلي: " متأكد بأن الذين يترحمون عليه أكثر من الذين سيترحمون عليك. الدكتور غازي ذهب إلى الرفيق الأعلى وارتاح من هم المواطن والوطن الذي كان شاغله الأكبر, وبالمقابل فأن أكثر من خسر برحيله هما المواطن والوطن, ثم إن غازي ليس بحاجة لأن يترحم عليه أصحاب المنن؛ فرحمة الله لا تخرج من بين أيديهم".

اللهم يا صاحب العفو؛ أعفو عن عبدك غازي وتجاوز عنه وارحمه ووسع مدخله وأكرم نزله, اللهم أغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, اللهم أبدله داراً خيراً من داره واجعل قبره روضة من رياض الجنة, وأسكنه الفردوس الأعلى يوم البعث, اللهم ألهم أهله وذويه وكافة أسرته الصبر والسلوان برحمتك يا أرحم الراحمين وإنا لله وإنا إليه راجعون.


*نقلاً عن صحيفة الوكاد