لم يكن مثل أكثر العباقرة الذين ولدوا من رحم المأساة وبدؤوا خطواتهم الأولى فقراء مدقعين, بل كان ينتسب لأسرة عريقة وثرية, وكان منذ طفولته يتميز بحدة الذكاء والعبقرية الفذة والموهبة الفريدة, وكان أيضاً محباً للعلم والعلماء إلا أن بلدته الصغيرة لم تشبع نهمه لطلب العلم فانتقل إلى عاصمة العلم في وقته آنذاك ينهل من بطون الكتب صنوف المعرفة فأبدع في أكثر من مجال, وبعد إتمام دراسته عاد إلى بلده, وما هي إلا بضع سنوات حتى أصبح يشار إليه بالبنان فهو إضافة إلى ما يحمل من العلم والمعرفة؛ يتصف بالتواضع الجم ولين الجانب وطيب الطوية وكرم الأخلاق وحسن المعشر, وبإخلاصه لقيمه ومبادئه, وفوق ذلك كله فإن الله قد حباه بكاريزما طاغية, فقربه الحاكم/الملك لهذه الصفات التي فيه ولإخلاصه لدينه وبلده, وأول منصب تولاه في الدولة كان أعلى منصب في الصحة فنجح نجاحاً منقطع النظير وبزغ اسمه, وتجاوزت شهرته حد الآفاق فأصبح "كأنه علم في رأسه نار", وبالرغم من منصبه الرفيع هذا وقدرته على استغلاله لمصالحه الشخصية وحيازة الثروة إن أراد؛ إلا أنه مال للتقشف ولم يظهر منه أي شره لجمع المال ولا سرف فيه, بل ما عرف عنه كان عكس ذلك فحافظ على المال العام كمحافظته على عينيه, وكل همه أن يعيش الإنسان بصحة ورفاه, واجتهد في تحقيق الأهداف التي رسمها له الحاكم/ الملك بإتقان وتفان وإخلاص, واستمر على هذا النحو في جميع المناصب التي تقلدها, وألف العديد من الكتب والكثير من الرسائل والمقالات, إنه بلا شك رجل استثنائي مختلف عن الآخرين, فريد عصره ونادر زمانه, ولكن هذا النجاح الذي حققه كان له ثمن؛ فقد حسده الذين امتلأت قلوبهم من المرض ووجد الشيطان مجاري دمائهم طرقاً سالكة ينفذ منها إلى أي جزء شاء من أجسادهم, فطفقوا جاهدين ليحطوا من قيمة هذا الرجل العلمية, فرموه بأقبح التهم وطعنوا بقسوة في أخلاقه وذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك حينما شككوا في دينه واتهموه بالكفر والإلحاد والزندقة.
يا ترى هل ما سبق يخص الشاعر والأديب والروائي والمفكر والسفير والوزير الدكتور غازي القصيبي أم يخص الفيلسوف والطبيب والكيميائي والفلكي محمد الرازي؟ الحقيقة أنه يخص كليهما؛ فغازي ومحمد اتفقا في كل ما سبق إلا الزمان والمكان, فبينهما أكثر من عشرة قرون. أنهما عبقريان من عباقرة التاريخ, كسرا التابو وحركا المياه الراكدة وفجرا العديد من القضايا بشجاعة لا تجارى, ليس هذا فحسب بل قدما الجديد من المعرفة والعلم وخدما الفكر وقبل ذلك الإنسان, وقارعا المتطرفين الذين يهدمون ولا يبنون ويفسدون ولا يصلحون ويعسرون ولا ييسرون, فشتان بين من امتهن التنوير وبين من امتهن التكفير. إن أبا بكر وأبا سهيل وإن كان جسديهما الآن تحت الثرى, إلا أنهما باقيان بكتبهما وأعمالها وسيظلان كذلك إلى أن تقوم الساعة " فالذكر للإنسان عمر ثاني".
تبادل الناس رسائل التعزية صبيحة يوم الأحد وورد إلي نصيب لا بأس به من أصدقائي وزملائي وهم من أطياف شتى, ومن بين رسائل التعزية أتت رسالة متطرفة لا تعزي ولكنها تقول بالحرف الواحد:" توفي اليوم الدكتور غازي القصيبي فأفضى إلى ما قدم, ما أقصر الحياة لو تأملتها, وهل حصل على كل ما يريد؟ والسؤال الذي يطرح نفسه كم عدد الذين يترحمون عليه ؟" صاحب الرسالة أعرفه تمام المعرفة فقد جمع بين الحمق والتشدد, لدرجة أن أبنائه من شدة ما ضيق عليهم يتمنون فراقه, فتجاهلت الرد عليه - ليس عجزاً ولا اتباعا لنصيحة الشافعي رحمه الله - ولما رأى مني التجاهل أرسلها مرة أخرى وأخرى وكأنه يريد إجابة مني بلحح, فجاءه الجواب كما يلي: " متأكد بأن الذين يترحمون عليه أكثر من الذين سيترحمون عليك. الدكتور غازي ذهب إلى الرفيق الأعلى وارتاح من هم المواطن والوطن الذي كان شاغله الأكبر, وبالمقابل فأن أكثر من خسر برحيله هما المواطن والوطن, ثم إن غازي ليس بحاجة لأن يترحم عليه أصحاب المنن؛ فرحمة الله لا تخرج من بين أيديهم".
اللهم يا صاحب العفو؛ أعفو عن عبدك غازي وتجاوز عنه وارحمه ووسع مدخله وأكرم نزله, اللهم أغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, اللهم أبدله داراً خيراً من داره واجعل قبره روضة من رياض الجنة, وأسكنه الفردوس الأعلى يوم البعث, اللهم ألهم أهله وذويه وكافة أسرته الصبر والسلوان برحمتك يا أرحم الراحمين وإنا لله وإنا إليه راجعون.
*نقلاً عن صحيفة الوكاد